كتاب: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام



قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل.
الغائط: المطمئن من الأرض ينتابونه للحاجة فكنوا به عن نفس الحدث كراهية لذكره بخاص اسمه.
والمراحيض جمع المرحاض وهو المغتسل وهو أيضا كناية عن موضع التخلي.
الكلام عليه من وجوه:
أحدهما: أبو أيوب الأنصاري اسمه خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة نجاري شهد بدرا ومات في زمن يزيد بن معاوية وقال خليفة: مات في أرض الروم سنة خمسين وذلك في زمن معاوية وقيل في سنة اثنتين وخمسين بالقسطنطينية.
الثاني: قوله: «إذا أتيتم الخلاء» استعمل الخلاء في قضاء الحاجة كيف كان لأن هذا الحكم عام في جميع صور قضاء الحاجة وهو إشارة إلى ما قدمناه من استعمال هذه الفظة مجازا.
الثالث: الحديث دليل على المنع من استقبال القبلة واستدبارها والفقهاء اختلفوا في هذا الحكم على مذاهب فمنهم من منع ذلك مطلقا على مقتضى ظاهر الحديث ومنهم من أجازه مطلقا ورأى أن هذا الحديث منسوخ وزعم أن ناسخه حديث مجاهد عن جابر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها» وممن نقل عنه الترخيص في ذلك مطلقا: عروة بن الزبير وربيعة بن عبد الرحمن ومنهم من فرق بين الصحاري والبنيان فمنع في الصحاري وأجاز في البنيان بناء على أن ابن عمر روى الحديث الذي يأتي ذكره بعد هذا الحديث في البنيان فجمع بين الأحاديث فحمل حديث أبي أيوب- وما في معناه- على الصحاري وحمل حديث ابن عمر على البنيان.
وقد روى الحسن بن ذكوان عن مروان الأصفر قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة ثم جلس يبول إليها فقلت أبا عبد الرحمن أليس قد نهى عن هذا؟ فقال: بلى إنما نهى عن ذلك في الفضاء فإذا كان بينك وبين القبلة شئ يسترك فلا بأس أخرجه أبو داود.
واعلم أن حمل حديث أبي أيوب على الصحاري مخالف لما حمله عليه أبو أيوب من العموم فإنه قال: فأتينا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل القبلة فننحرف عنها فرأى النهي عاما.
الرابع: اختلفوا في علة هذا النهي من حيث المعنى والظاهر أنه لإظهار الاحترام والتعظيم للقبلة لأنه معنى مناسب ورد الحكم على وفقه فيكون علة له وأقوى من هذا في الدلالة على هذا التعليل: ما روي من حديث سلمة بن وهرام عن سراقة بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتى أحدكم البراز فليكرم قبلة الله عز وجل ولايستقبل القبلة» وهذا ظاهر.
قوي في التعليل بما ذكرناه إلا أن هذا الحديث مرسل روى الربيع عن الشافعي قال: حديث طاوس هذا مرسل وأهل الحديث لا يثبتونه.
ومنهم من علل بأمر آخر فذكر عيسى بن أبي عيسى قال: قلت للشعبي- هو بفتح الشين المعجمة وسكون العين المهملة- عجبت لقول أبي هريرة ونافع عن ابن عمر قال: وما قالا؟ قلت: قال أبو هريرة لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها وقال نافع عن ابن عمر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ذهب مذهبا مواجه القبلة قال: أما قول أبي هريرة: ففي الصحراء إن لله خلقا من عباده يصلون في الصحراء فلا تستقبلوهم ولا تستدبروهم وأما بيوتكم هذه التي تتخذونها للنتن فإنه لا قبلة لها وذكر الدارقطني: أن عيسى هذا ضعيف.
وينبني على هذا الخلاف في التعليل اختلافهم فيما إذا كان في الصحراء فاستتر بشيء هل يجوز الاستقبال والاستدبار أم لا؟ فالتعليل باحترام القبلة يقتضي المنع والتعليل برؤية المصلين يقتضي الجواز.
الخامس: قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيتم الخلاء فلا تستقبلوا القبلة» الحديث يقتضي أمرين: أحدهما: ممنوع منه والثاني: علة لذلك المنع.
وقد تكلمنا عن العلة والكلام الآن على محل العلة فالحديث دل على المنع من استقبالها لغائط أو بول وهذه الحالة تتضمن أمرين: أحدهما: خروج الخارج المستقذر والثاني: كشف العورة فمن الناس من قال: المنع للخارج لمناسبته لتعظيم القبلة عنه ومنهم من قال: المنع لكشف العورة.
وينبني على هذا الخلاف: خلافهم في جواز الوطء مستقبل القبلة مع كشف العورة فمن علل بالخارج أباحه إذ لا خارج ومن علل بالعورة منعه.
السادس: الغائط في الأصل: هو المكان المطمئن من الأرض كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة ثم استعمل في الخارج وغلب هذا الاستعمال على الحقيقة الوضعية فصار حقيقة عرفية.
والحديث يقتضي أن اسم الغائط لا ينطلق على البول لتفرقته بينهما وقد تكلموا في أن قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] هل يتناول الريح مثلا أو البول أو لا؟ بناء على أنه يخصص لفظ الغائط لما كانت العادة أن يقصد لأجله وهو الخارج من الدبر ولم يكونوا يقصدون الغائط للريح مثلا أو يقال: إنه مستعمل فيما كان يقع عند قصدهم الغائط من الخارج من القبل أو الدبر كيف كان.
والسابع: قوله: «ولكن شرقوا أو غربوا» محمول على محل يكون التشريق والتغريب فيه.
مخالفا لاستقبال القبلة واستدبارها كالمدينة التي هي مسكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في معناها من البلاد ولا يدخل تحته ما كانت القبلة فيه إلى المشرق أو المغرب.
الثامن: قول أبي أيوب فقدمنا الشام الخ فيه ما قدمناه ثمة من حملة له على العموم بالنسبة إلى البنيان والصحاري وفيه دليل على أن للعموم صيغة عند العرب وأهل الشرع على خلاف ما ذهب إليه بعض الأصوليين.
وهذا- أعني استعمال صيغة العموم- فرد من الأفراد له نظائر لاتحصى وإنما نبهنا عليه على سبيل ضرب المثل فمن أراد أن يقف على ذلك فليتتبع نظائرها يجدها.
التاسع: أولع بعض أهل العصر- وما يقرب منه- بأن قالوا: إن صيغة العموم إذا وردت على الذوات- مثلا أو على الأفعال كانت عامة في ذلك مطلقة في الزمان والمكان والأحوال والمتعلقات ثم يقولون: المطلق يكفي في العمل به صورة واحدة فلا يكون حجة فيما عداه وأكثروا من هذا السؤال فيما لا يحصى من ألفاظ الكتاب والسنة وصار ذلك ديدنا لهم في الجدال.
وهذا عندنا باطل بل الواجب: أن ما دل على العموم في الذوات- مثلا- يكون دالا على ثبوت الحكم في كل ذات تناولها اللفظ ولا تخرج عنها ذات إلا بدليل يخصه فمن أخرج شيئا من تلك الذوات فقد خالف مقتضى العموم.
نعم المطلق يكفي العمل به مرة كما قالوه ونحن لا نقول بالعموم في هذه المواضع من حيث الإطلاق وإنما قلنا به من حيث المحافظة على ما تقتضيه صيغة العموم في كل ذات فإن كان المطلق مما لا يقتضي العمل به مرة واحدة مخالفة لمقتضى صيغة العموم اكتفينا في العمل به مرة واحدة وإن كان العمل به مما يخالف مقتضى صيغة العموم قلنا بالعموم محافظة على مقتضى صيغته لا من حيث إن المطلق يعم مثال ذلك: إذا قال: من دخل داري فأعطه درهما فمقتضى الصيغة: العموم في كل ذات صدق عليها أنها داخلة.
فإن قال قائل: هو مطلق في الأزمان فأعمل به في الذوات الداخلة الدار في أول النهار مثلا ولا أعمل به في غير ذلك الوقت لأنه مطلق في الزمان وقد عملت به مرة فلا يلزم أن أعمل به مرة أخرى لعدم عموم المطلق.
قلنا له: لما دلت الصيغة على العموم في كل ذات دخلت الدار ومن جملتها: الذوات الداخلة في آخر النهار فإذا أخرجت تلك الذوات فقد أخرجت ما دلت الصيغة على دخوله وهي كل ذات.
وهذا الحديث أحد ما يستدل به على ما قلنا فإن أبا أيوب من أهل اللسان والشرع وقد استعمل قوله: «لا تستقبلوا ولا تستدبروا» عاما في الأماكن وهو مطلق فيها.
وعلى ما قال هؤلاء المتأخرون: لا يلزم منه العموم وعلى ما قلناه: يعم لأنه إذا أخرج عنه بعض الأماكن خالف صيغة العموم في النهي عن الاستقبال والاستدبار.
العاشر: قوله: «ونستغفر الله» قيل: يراد به ونستغفر الله لباني الكنف على هذه الصورة الممنوعة عنده وإنما حملهم على هذا التأويل: أنه إذا انحرف عنها لم يفعل ممنوعا فلا يحتاج إلى الاستغفار والأقرب: أنه استغفار لنفسه ولعل ذلك لأنه استقبل واستدبر بسبب موافقته لمقتضى البناء غلطا أو سهوا فيتذكر فينحرف ويستغفر الله.
فإن قلت: فالغالط والساهي لم يفعل إثما فلا حاجة به إلى الاستغفار.
قلت: أهل الورع والمناصب العلية في التقوى قد يفعلون مثل هذا بناء على نسبتهم التقصير إلى أنفسهم في: (عدم) التحفظ ابتداء والله أعلم.
3- عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: «رقيت يوما على بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة».
وفي رواية: «مستقبلا بيت المقدس».
عبد الله بن عمر بن الخطاب تقدم نسبه في ذكر أبيه رضي الله عنهما كنيته أبو عبد الرحمن أحد أكابر الصحابة علما ودينا توفي سنة ثلاث وسبعين وقيل سنة أربع وسبعين وقال مالك: بلغ ابن عمر سبعا وثمانين سنة.
هذا الحديث يعارض حديث أبي أيوب المتقدم من وجه وكذلك ما في معنى حديث أبي أيوب.
واختلف الناس في كيفية العمل به أو بالأول؟ على أقوال فمنهم من رأى أنه مانع لحديث المنع واعتقد الإباحة مطلقا وكأنه رأى أن تخصيص حكمه بالبنيان مطرح وأ خذ دلالته على الجواز مجردة عن اعتبار خصوص كونه في البنيان لاعتقاده أنه وصف ملغى لا اعتبار به ومنهم من رأى العمل بالحديث الأول وما في معناه واعتقد هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من جمع بين الحديثين فرأى حديث ابن عمر مخصوصا بالبنيان فيخص به حديث أبي أيوب العام في البنيان وغيره جمعا بين الدليلين ومنهم من توقف في المسألة.
ونحن ننبه هاهنا على أمرين:
أحدهما: أن من قال بتخصيص هذا الفعل بالنبي صلى الله عليه وسلم له أن يقول: إن رؤية هذا الفعل كان.
أمرا اتفاقيا لم يقصده ابن عمر ولا الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة يتعرض لرؤية أحد فلو كان يترتب على هذا الفعل حكم عام لبينه لهم بإظهاره بالقول أو الدلالة على وجود الفعل فإن الأحكام العامة للأمة لابد من بيانها فلما لم يقع ذلك- وكانت هذه الرؤية من ابن عمر على طريق الاتفاق وعدم قصد الرسول صلى الله عليه وسلم- دل ذلك على الخصوص به صلى الله عليه وسلم وعدم العموم في حق الأمة وفيه بعد ذلك بحث.
التنبيه الثاني: أن الحديث: إذا كان عام الدلالة وعارضه غيره في بعض الصور وأردنا التخصيص- فالواجب أن نقتصر في مخالفة مقتضى العموم على مقدار الضرورة ويبقى الحديث العام على مقتضى عمومه فيما يبقى من الصور إذ لا معارض له فيما عدا تلك الصور المخصوصة التي ورد فيها الدليل الخاص وحديث ابن عمر لم يدل على جواز الاستقبال والاستدبار معا في البنيان وإنما ورد في الاستدبار فقط فالمعارضة بينه وبين حديث أبي أيوب إنما هي في الاستدبار فيبقى الاستقبال لا معارض له فيه فينبغي أن يعمل بمقتضى حديث أبي أيوب في المنع من الاستقبال مطلقا لكنهم أجازوا الاستقبال والاستدبار معا في البنيان وعليه هذا السؤال.
هذا لو كان في حديث أبي أيوب لفظ واحد يعم الاستقبال والاستدبار فيخرج منه الاستدبار ويبقى الاستقبال على ما قررناه آنفا.
ولكن ليس الأمر كذلك بل هما جملتان دلت إحداهما على الاستقبال والأخرى على الاستدبار تناول حديث ابن عمر إحداهما وهى عامة في محلها وحديثه خاص ببعض صور عمومها والجملة الأخرى: لم يتناولها حديث ابن عمر فهي باقية على حالها.
ولعل قائلا يقول: أقيس الاستقبال في البنيان- وإن كان مسكوتا عنه- علي الاستدبار الذي ورد فيه الحديث.
فيقال له: أولا في هذا تقديم القياس علي مقتضى اللفظ العام وفيه ما فيه على ما عرف في أصول الفقه.
وثانيا: إن شرط القياس مساواة الفرع للأصل أو زيادته عليه في المعنى المعتبر في الحكم ولا تساوي هاهنا فإن الاستقبال يزيد في القبح على الاستدبار على ما يشهد به العرف ولهذا اعتبر بعض العلماء هذا المعنى فمنع الاستقبال وأجاز الاستدبار وإذا كان الاستقبال أزيد في القبح من الاستدبار: فلا يلزم من إلغاء المفسدة الناقصة في القبح في حكم الجوار إلغاء المفسدة الزائدة في القبح في حكم الجواز.